إذا قلنا إيمانا ومذهبا بتحكيم القرآن، والرجوع إليه، والرضوخ التام لأمره ونهيه، فلا بد أن نحدد حمى القرآن وحرمته، والتورع الواجب في الاستشهاد به والاستنباط منه، لكيلا نقع في مهاوي الذين اتخذوا آيات الله هُزُؤا، ولكي لا نحشر، إن نحن استخففنا بالحرمة ووقعنا في الحمى، مع الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدّوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون.
كان الصحابة رضي الله عنهم
عربا فصحاء يعرفون البلاغة العربية سليقة، ويذوقون المجاز والإشارة، فيتنزل القرآن وهو غض حديث البروز إلى عالم الشهادة على أسماعهم، يسبقه التعظيم والخشوع لما علموا من أنه كلام من رب العالمين، ويتنزل على قلوبهم ومعه الحلاوة والطمأنينة والاستعداد الصادق لطاعة الله في أمره ونهيه، كانت آياته في أسماعهم وعقولهم توجيهات مباشرة تعالج قضايا الساعة التشريعية والجهادية، وتذكر بسنن الأمم الخالية، وتعطي الأسوة بسير الرسل والأنبياء عليهم السلام، لم يكن شيء من كليات القرآن خافيا عنهم، ولم يكونوا يتقعرون في الجزئيات إذا كان علمها لا يبين حكما ولا يفصل في مسائل العقيدة والحلال والحرام، ورد السؤال عند عمر، وفي رواية عند أبي بكر، رضي الله عنهما في معنى الأبّ في قوله تعالى : ﴿ وفاكهة وأبّا﴾ فأعرض عن ذلك وقال : ما بهذا أمرنا.
كانوا
رضي الله عنهم يعلمون أسباب التنزيل، والمقاصد الكلية للشريعة، وعادات العرب في أقوالها وأفعالها وأحوالها، ودخائل العدو الذي كانوا يجاهدونه، مراتب التكليف من واجب الفعل أو الترك فما دونه، ثم لا يكتفون بفهمهم حتى يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان، والبيان وظيفة من وظائفه السامية، به أرسله الله جل وعلا.
كانوا
يتأثمون ويتورعون أشد التورع عن تفسير كلام الله سبحانه وتعالى بالرأي، روي عن الصديق رضي الله عنه، وقد سئل في شيء من القرآن (في خبر أن المسألة كانت عن الأبّ) فقال كلمته المشهورة التي ترسم لنا حدود الحمى القرآني وحرمته في قلب المؤمن، " أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إن أنا قلت في كلام الله ما لا أعلم ؟".
بين أن نعظم ونحتاط
وبين أن نعطل ونهجُر مسافة احتلها الجاهلون والمتجرئون، والأوْلى بجند الله أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية ويحملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآني في كليات الشريعة وهي لم يطرأ عليها نسخ ولا حدث تغيير لمراد الله من آياته فيها، ولنترك لأهل الاختصاص والاجتهاد النظر فيما اختلف فيه، ريثما يأذن الله عز وجل بنصب الحاكم على منهاج النبوة ليجتمع تحت إشارته الاجتهاد.
إن حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أفسح مجال الاجتهاد والثواب إنما ذكر الحاكم من قاض وعامل، لم يذكر فقيه الفروع الواقف دون عتبة الإمارة العظمى الشرعية، حيث قال : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، رواه الشيخان وغيرهما.